أوكرانيا- فشل ترامب و كتابة بوتين للتاريخ على نار الحرب

في حقبة تشهد تصاعدًا مطردًا لأزمات النظام الدولي واهتزازًا في موازين الردع التقليدية، تتجاوز الحرب الدائرة في أوكرانيا كونها مجرد نزاع عسكري على أطراف أوروبا الشرقية، لتمثل لحظة فارقة في الفهم الاستراتيجي الأمريكي ومرآة عاكسة لتحولات معايير التأثير السياسي في عالم ما بعد الهيمنة.
منذ وطأت قدما دونالد ترامب أروقة البيت الأبيض، متسلحًا بوعد انتخابي بالغ التبسيط والاختزال، زاعمًا القدرة على إنهاء الصراع في غضون 24 ساعة، بدأ التباين جليًا بين لهجة الحزم والصرامة وبين واقع التردد والتذبذب، وبين منطق إبرام الصفقات وواقع المعارك.
لم يمضِ وقت طويل، وتحديدًا بعد مرور مئتي يوم فقط، حتى بدت ملامح العجز بادية للعيان، ليس باعتباره إخفاقًا عابرًا في إدارة الأزمة، بل باعتباره اختبارًا وجوديًا لمقدار ما تبقى من مصداقية واشنطن كقوة قادرة على قيادة النظام العالمي لا الاستسلام أمامه.
لم يجد ترامب في شخص فلاديمير بوتين الطرف الذي يمكن استدراجه إلى مائدة المفاوضات برائحة الصفقات التجارية، بل واجه عقلًا جيوسياسيًا متمرسًا لا يكتفي بتجميع النقاط، بل يسعى إلى تحقيق الحسم والانتصار، ولا يقبل بالمهادنة إلا من موقع القوة والنفوذ.
رفض بوتين جميع محاولات التجميد، بل رفع سقف مطالبه إلى حد مطالبة أوكرانيا بالانسحاب من المناطق التي ضمتها روسيا، وضمان عدم انضمامها إلى حلف الناتو، وتجريدها من السلاح بشكل كامل، واضعًا بذلك معادلة جديدة لا ترى في التسوية إلا ستارًا للنصر، ولا ترضى بأقل من اعتراف دولي بخطته لإعادة صياغة البيئة الأمنية لروسيا.
هذه الشروط، على الرغم من أنها تبدو ضربًا من المستحيل في نظر كييف والدول الغربية، إلا أنها مدعومة بإيقاع عسكري متسارع؛ إذ استولت القوات الروسية خلال الشهرين الماضيين فقط على أكثر من ألف كيلومتر مربع، في حين خسرت أوكرانيا ما يقارب سبعة آلاف كيلومتر مربع منذ بداية عام 2023.
هذا يشير بوضوح إلى أن زمام المبادرة على أرض المعركة يميل بشكل متزايد لصالح موسكو، وأن آلة الحرب الروسية لم تتأثر بعد بالقدر الكافي لإحداث خلل في ميزان القوى.
في الوقت الذي كانت واشنطن تهدد بفرض عقوبات جديدة، بدا أن أدوات الضغط القديمة قد فقدت فعاليتها. إن فرض عقوبات ثانوية على شركاء روسيا التجاريين يبدو أقرب إلى إطلاق النار في الهواء.
فالهند، على سبيل المثال، استمرت في شراء النفط الروسي بموجب اتفاقيات طويلة الأجل وبأسعار تفضيلية، بل وعمدت إلى إعادة تصديره محققة مكاسب هائلة، متجاهلة تحذيرات واشنطن.
وقد ردت نيودلهي بلهجة قوية، واصفة استهدافها بأنه غير مبرر وغير منطقي، في إشارة واضحة إلى حدود النفوذ الأمريكي حتى على حلفائه التقليديين. ولم تكن الصين وتركيا أقل تمردًا، الأمر الذي جعل فرض عقوبات شاملة أمرًا مليئًا بالمخاطر الاقتصادية والسياسية في آن واحد.
وحتى مع تصاعد التهديدات وتحديد مواعيد نهائية لإنهاء الحرب، بدا أن ترامب نفسه يشكك في جدوى ما يلوح به، إذ اعترف في تصريح لافت: "لا أعرف ما إذا كانت العقوبات تزعج بوتين"، ثم استدرك: "الروس ماهرون جدًا في التحايل عليها"، في اعتراف ضمني بعجز الأداة الاقتصادية عن كبح الطموحات الروسية لتحقيق النصر.
وفي سياق البحث عن مخرج سياسي يحفظ ماء الوجه، عادت واشنطن للتهديد بإمكانية عقد لقاء مباشر، حيث أثيرت مجددًا فكرة عقد قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين، كتجسيد أخير لمحاولة الالتفاف على ساحة المعركة عبر مسار شخصي.
فقد وصل المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي وصديقه المقرب، ستيف ويتكوف، إلى موسكو بصفة تمهيدية، وهو الذي سبق له أن التقى ببوتين دون مترجم رسمي، وتبادل معه الهدايا الشخصية، بما في ذلك لوحة زيتية لدونالد ترامب نفسه، في مشهد أشبه بالطقوس الدبلوماسية منه بالمفاوضات الفعلية.
وقد تسربت معلومات تفيد بأن احتمال عقد قمة بين الزعيمين لم يتم استبعاده تمامًا، على الرغم من عدم وجود أي مؤشرات فعلية على استعداد بوتين للجلوس من موقع الند.
وعلى الرغم من أن ترامب قد راهن منذ البداية على العلاقة الشخصية مع بوتين، فإن الحقائق على أرض الواقع لا تدعم هذا الرهان، بل تقوضه. استمرت موسكو في رفض الانخراط في أي مفاوضات جادة، ومواصلة عملياتها البرية، وتكثيف قصفها للمدن، في حين كانت الإدارة الأمريكية تمارس ضغوطًا على كييف، وتحثها على الموافقة على تنازلات واقعية قد تؤدي إلى اتفاق مهين.
أما على أرض المعركة، فتواصل روسيا قصفها المكثف باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ، مستهدفة البنية التحتية المدنية والعسكرية على حد سواء، في تكتيك ممنهج يهدف إلى إضعاف الدفاعات الجوية الأوكرانية التي تعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات الغربية.
لكن هذه المساعدات، على الرغم من أهميتها، بدأت تظهر قصورًا واضحًا، ليس فقط بسبب تراجع الإرادة السياسية، بل أيضًا نتيجة للعجز الصناعي الهيكلي في كل من أوروبا والولايات المتحدة.
فالمصانع الغربية، المصممة لخوض حروب محدودة أو حملات جوية خاطفة، غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد في حرب استنزاف طويلة الأمد، خاصة في مجال الدفاع الجوي، الذي يمثل نقطة الضعف الرئيسية في الأداء الأوكراني.
في هذا السياق، تتفاقم أزمة واشنطن، ليس بسبب عجزها عن تقديم الدعم، بل بسبب افتقارها إلى رؤية استراتيجية قادرة على تحويل هذا الدعم إلى نصر أو تسوية.
لقد تحول الصراع في أوكرانيا إلى مرآة تعكس طبيعة القرار الأمريكي: متردد في التصعيد، عاجز عن الانسحاب، محاصر بوعود انتخابية، ومقيد بتحالفات لا تتحمل صدمات مفاجئة.
ومما زاد الطين بلة، اعتماد ترامب منذ البداية على علاقته الشخصية ببوتين، معتقدًا أن الرجل الذي يحترمه ويخاطبه مباشرة يمكن استمالته أو على الأقل احتوائه. لكن أرض المعركة كانت أشد قسوة من المجاملات، والسياسة الدولية أكثر جمودًا من الكلمات.
بلغ التوتر ذروته عندما صعّد ترامب لهجته بعد خلاف حاد مع ديمتري ميدفيديف، معلنًا عن تحريك غواصتين نوويتين كرد رمزي على التصعيد الروسي، ثم سرعان ما تراجع، مكتفيًا بالقول إن الغواصات في مواقعها.
لكنه، على الرغم من هذه التصعيدات العرضية، بدا عاجزًا عن فهم دوافع الكرملين، معترفًا صراحة بأنه لا يعرف لماذا تصر روسيا على مواصلة الحرب، قائلًا: "هذا لا معنى له بالنسبة لي"، في اعتراف نادر من رئيس أمريكي بأن خصمه يفكر خارج الأطر المألوفة في واشنطن.
في خضم هذا التعقيد، تبدو أوكرانيا كمن يقاتل على جبهتين: ضد عدو متقدم، وضد حليف متردد. إنها تدفع الثمن باهظًا ليس فقط في الجغرافيا والدماء، بل أيضًا في الإخفاقات المتتالية للنظام الدولي الذي وعدها بالدعم، ثم تخلى عنها تدريجيًا، تمامًا كما تنطفئ الشموع واحدة تلو الأخرى في غرفة مظلمة.
لم تعد الحرب مجرد اختبار للإرادات، بل اختبار للروايات. فالرئيس الأمريكي الذي بنى صورته على أنه صاحب قرارات حاسمة، بات محاطًا بشكوك متزايدة، داخل بلاده وخارجها، حول قدرته على التأثير في صراع يتجاوز نطاق أدوات الضغط التقليدية.
لقد اتضح أن الحرب في أوكرانيا ليست نزاعًا يمكن حله عبر تغريدة أو صفقة، بل هي صراع استراتيجي طويل الأمد، يتم فيه إعادة تشكيل التوازنات وتغيير مواقع القوى.
لم يفشل ترامب في تحقيق وعده فحسب، بل كشف أيضًا أن الرهانات القائمة على تسييس السياسة الخارجية وتبسيط الصراعات المعقدة في قوالب إعلامية لن تصمد أمام حقائق الميدان.
أما بوتين، فبدا كمن يكتب نص النصر بتمهل، مؤمنًا بأن الهيمنة لا تُستعاد بالخطابات الرنانة، بل بالتقدم البطيء والمدروس، وأن الجغرافيا، عندما تسيطر على الوقت، تتحول من ساحة صراع إلى أداة لتسجيل التاريخ.
وبين هذا وذاك، يبقى النظام الدولي معلقًا على أسلاك ملتهبة، عاجزًا عن فرض نهاية للصراع أو منع تفاقمه.